قهوة لا تشبه أحدًا

أحاديث لا يسمعها أحد!
في تلك الحديقة التي بدت لي، مع مرور الوقت، وكأنها كائن حيّ يتنفس ببطء، كنت أعود مجددًا. لا لأراها فقط، بل لأستعيد شيئًا خفيًا مني، شيئًا ضاع في زوايا الأيام.
الضوء كان خافتًا، كأن الشمس تتلكأ قبل أن تنسحب خلف الأفق، وكل ورقة تسقط من الشجر بدت وكأنها رسالة غير مكتوبة، من أحدهم… أو إليّ. المكان لم يكن حديقة فحسب، بل خشبة مسرح مفتوحة على السماء، حيث تتقاطع أرواح العابرين بلحظات خاطفة من الدهشة والسكينة.
رجل مسنّ يسير ببطء، تتعكز خطواته على سنواتٍ لم تعد تُقال، وإلى جانبه امرأة، تشبهه كأنها صدى حياته، تمسك يده كما لو أنها لا تزال تحاول الاحتفاظ به من بين أصابع الزمن. وقريبًا من البحيرة، طفل يركض كأن العالم كله لعبة، عيناه تطاردان الفراشات، وركضه لا هدف له سوى الركض… لكن من يدري؟ ربما كان يركض هربًا منّا جميعًا، نحن الذين نسينا كيف نركض بلا سبب.وعلى ذلك المقعد البعيد، يجلس عاشقان. لا يتحركان كثيرًا، لا يتحدثان كثيرًا، وكأنهما علّقا اللحظة بينهما ليبقيا فيها إلى الأبد. كل نظرة كانت قصيدة صامتة، وكل ابتسامة كانت وعدًا لا يحتاج إلى كلمات.
أما أنا، فكنت هناك، في طاولتي الخشبية المعتادة، تلك التي باتت تعرفني كما يعرف الظل صاحبه. أمامي كوب من القهوة لم أعد أشربه، بل أراقبه كما يُراقب شخصٌ جرحًا قديمًا. طيور البط تعبر سطح البحيرة كأفكار هادئة تسير فوق عقلٍ مضطرب، لا تعرف إلى أين تذهب، لكنها بأي حال تذهب.
ثم هناك هي… المرأة التي تقف خلف كشك القهوة. ليست بائعة وحسب، بل راوية للحكايات، امرأة خرجت من حلمٍ سريالي بزيها الغجريّ الذي يعكس أشعة الشمس كما تعكس المرايا ذكرياتنا البعيدة. كانت تبتسم، لا لأحدٍ بعينه، بل ربما لأن هناك شيئًا داخلها أقوى من الحزن، أقوى حتى من الفرح… شيء يشبه النور.
اليوم تحديدا، قررت أن لا أذهب إليها. وأن لا أبتاع منها قهوة. فلا حاجة لمزيد من الشغف، ولا لجرعة أخرى من الحياة.
لكن شيئًا ما في داخلي لم يصدقني. المكان، رائحة قهوة، صوت خطواتي… كلها دفعتني لأن أجلس، فقط أجلس، هناك… على طاولتي المعتادة نفسها. كنت قد نسيت الكشك. أو تظاهرت بذلك.الضجيج الصغير الذي يصدر عن الزبائن، صوت ماكينة القهوة، تصفيق الأكواب، اختفى تدريجيًا في زحام أفكاري.
وفجأة أدركت: أن الحديقة لم تتغير. أنا من تغير. أنا الذي بات يسأل نفسه كل يوم: هل أنا من يراقب هذا العالم؟ أم أن العالم يراقبني؟ لكن ثمة، شيء ما في الهواء تغيّر خطوات خفيفة على الحصى. لم تكن تشبه وقع أقدام المارّة. لم تكن مستعجلة، لم تكن تائهة. كانت تمشي كأنها تعرف الطريق حتى وإن لم يكن مرسومًا.
رفعت رأسي.
كانت هي.
وقفت أمامي بثوبها الذي بدا اليوم أكثر كثافة في اللون، وكأنه امتصّ من غروب الشمس ما يكفي ليشعّ وحده. لم تقل شيئًا، لم تبتسم. لم تلمح حتى إلى أنها فعلت شيئًا غريبًا. وبحركة خفيفة، كسرت فيها صمت اللحظة كما يُكسر البلور. وضعت كوب القهوة الجديد أمامي، ثم رفعت عينيها نحوي. لم يكن في نظرتها شيء مباشر. لا عتاب، لا دعوة، لا رجاء. فقط نظرة… صافية، كأنها تعرف عنك أكثر ما تعرف عن نفسك.
وبصوتٍ منخفض قالت :
“اليوم، لا تدفع.”
ثم، دون أن تنتظر ردًا، جلست. هكذا، بكل بساطة، كما لو أن المكان كان لها دائمًا، وكما لو أن هذا المقعد خُصّص منذ زمن لمجيئها، ولهذا اللقاء. جلست كما تجلس الذكريات القديمة حين تتسلل إلى طاولة أفكارك: دون دعوة… دون تفسير… ودون وعد بالمغادرة.

كأن الحديقة نفسها حبست أنفاسها لحظة جلوسها. حتى النسيم تراجع قليلاً، كأنّه يحترم قدومها رفعت نظري إلى الكوب أمامي. كانت رائحته تشبه رائحة أول امرأة أحببتها، دافئة، وحادة، ومألوفة بطريقة غامضة.
لم أمدّ يدي إليه. لم أكن متأكدًا إن كنت أريده… أم كنت أحتاجه. لم يكن بيننا كلمات. فقط وجودان، جلسا وجهاً لوجه، وتركوا كل شيء حولهما ليقول الباقي. فسألتها دون أن أقصد السؤال:
“لماذا أنا؟”
قالت:
“لأنك الشخص الوحيد هنا الذي لا يبدو كأنه ينتظر أحدًا.”
ضحكتُ بهدوء، وقلت:
“وهل هذا سيء؟”
بعد لحظة صمت أجابت:
“لا، هذا نادر. فالناس يخافون من الفراغ، من الجلوس مع أنفسهم. وأنت، لا تبدو خائفًا.”
رفعتُ الكوب ببطء، شممت البخار الصاعد، ثم نظرت إليها وسألت مجددا ً:
“كيف يُمكن لشيءٍ بهذا السواد… أن يصنع كل هذا الدفء؟”
ابتسمت، وكأنها كانت تنتظر هذا السؤال بالذات:
“ربما لأن أكثر الأشياء صدقًا، لا تحتاج أن تتجمّل. القهوة لا تُخفي سوادها. نحن من نفعل.”
يبدو أنها جلستْ، لا لتتحدث، بل لتغلق الباب على أي احتمال لدي للهرب. كانت كمن يُشعل شمعة في غرفة تعرف تمامًا كيف سيحترق فيها الحضور. نظرتْ إليّ كأنها تقرأ الجملة التي سبقتها على صفحة وجهي، وكأنها تسبق حتى أفكاري بخطوة ونصف. لم تبدأ بالكلام فورًا. تركتني أشرب من الصمت أولًا، حتى إذا ابتلعت ما يكفي. وبصوتٍ يشبه انسكاب المطر على زجاجٍ داخلي، قالت:
“لماذا جلست هنا، وليس هناك؟”
لم تُشر إلى شيء. لكنها عنت كل الأماكن التي لم أذهب إليها… وكل ما هربت منه. كان سؤالًا لا يحتاج إجابة، لكن صمتي جعله أضخم مما هو عليه. نظرتُ نحو البحيرة، محاولًا أن أجد في حركة الماء مخرجًا.
فقالت، بنبرة فيها نكتة خفية، لكنها مغموسة بخطر:
“البحيرة لا تنقذك. هي فقط تعكسك.”
كنت أبحث في ذهني عن كلمات مرتبة، مدافِعة، ذكية… لكنها كانت أسرع. فأنا لا أحب الصمت الطويل، إلا إذا كان يحمل صوتًا ما… صوت شيء ينهار. قالتها وهي تنظر إلى كوب القهوة أمامي، كأنها تشير إلى أنني أنا ذلك الكوب. أو ربما الحديقة كلها. أو ربما هي نفسها.
ثم رفعت عينيها نحوي، بثباتٍ صاعق، وسألت:
“من كنت قبل أن تأتي إلى هنا؟”
وكأنها سحبت الأرض من تحت قدمي فجأة وبعنف.
كانت تعرف كيف تُطلق الأسئلة لا لتُجيب، بل لتُفسد ما ظننته مستقرًا داخلك.
في تلك اللحظة، شعرت أنني لست جالسًا أمام امرأة، بل أمام زوبعة ترتدي جلد امرأة، وعقلها مثل سكين مطبخ قديم: لا يلمع، لكنه لا يخطئ القلب. رفعت عيني إليها… ابتسمتُ… لأول مرة.
وقلت بنبرة هادئة تمامًا، كلاعب شطرنج عدل وضعية كرسيه:
“ومن أنتِ بعد أن جئت ِ إلى هنا؟”
أدارت الكوب الفارغ بين أصابعها، ثم نظرت إليّ مجددا ًبنصف ابتسامة، وقالت:
“أنت تحاول أن تلعب لعبتي.”
“أنا فقط أتكلم بلغتك.”
“وهل تتقنها؟”
ابتسمتُ، لكن هذه المرة، بعينين ثابتتين:
“فقط مع الذين يظنون أن ذكاءهم درع لا يُخترق.”
أجابت مع ضحكة قصيرة.
“أوه… خطير.”
“أتعلم؟ اللعب معك يشبه الجلوس على جمر بارد. يحرق… لكنه لا يدخّن.”
ودون تردد كمن يطلق سهما ً أجبتها:
“وأنتِ تشبهين عاصفة بلا صوت… تبدئين بالضوء، وتنتهين بالظلمة.”
نظرت إليّ نظرة ليس فيها سؤال… ولا فيها جواب.
فقط امرأة بدأت تشك إن كانت العاصفة هي… أم أنا!
انا أدرك أن هدفها ليس الحديث بل السيطرة. كانت ذكية بما يكفي لتبدو عفوية، وخطيرة بما يكفي لتجعل من كل سؤال سكينًا ناعمًا. صوتها ناعم، لكنه محمّل بكثافة غريبة. كانت تحاول من خلاله أن تفتح ممرًا في داخلي، لا بالحفر، بل بالتشويش. كل سؤال منها كان يبدو بسيطًا… حتى يُطرح. عندها فقط تشعر أنه يعرّيك من دون أن يلمسك. وكلما فكّرتُ في إجابة سبقتني بسؤال آخر، وكأنها تمارس رقصة عقلية لا تريد فيها الانتصار، بل الخلخلة.
لم تكن تنتظر إجابات حقيقية. كانت تنتظر فقط أن ترى كيف أتنفس وأنا محاصر.
صمتٌ قصير… تنفست فيه الحديقة، ثم قطعتْهُ بصوتٍ بدا هذه المرة أكثر سكونًا من العاصفة نفسها:
“ما مهنتك؟”
أجبتُ دون تردد، لكن مع ابتسامة لا تخلو من حذر:
“مخرج سينمائي.”
أومأت بنظرة خفيفة إلى السماء، كما لو أنها تحاول تذكر شيئًا ما.
“آه… إذًا أنت من يُقرر أين تضع الكاميرا… ومن تضيء عليه ومن يخرج من الإطار.”
لم أجب.
نظرتها أصبحت أضيق، أكثر دقة. ثم تابعت:
” برأيك هل المخرج إله صغير؟ أم مجرد شاهد على أحداث لم تحدث بعد؟”
ابتسمتُ. ليس لأن السؤال بسيط، بل لأنه مألوف.
“المخرج يحاول أن يفهم. لا أن يحكم.”
ضحكت، بنعومة تسخر من كل محاولة دفاع.
“أها ؟ وماذا عن تلك اللحظات التي تقطعها بالمونتاج؟ هل تقطعها لأنها بلا معنى؟ أم لأنها حقيقية أكثر مما يجب؟”
“أحيانًا نقطعها لأن الحقيقة لا تهم أحدًا.”
“جميل. إذًا تصنع الوهم؟”
“أصنع إحساسًا قد يكون أوضح من الواقع.”
أمالت رأسها، كأنها تستمتع بتذبذبي بين من يدافع ومن يتساءل. ثم سألت:
“وماذا تفعل بالشخصيات التي لا تفهم دوافعها؟”
“أحاول أن أراقبها أكثر. أن أضعها في مواقف تكشف عن نفسها.”
قالت، دون أن تنظر إليّ مباشرة:
“هل هذا ما تفعله الآن؟ تضعني في مشهد… لترى ماذا سينكشف؟”
أجبت مع ابتسامة:
“ربما… أو لعلي أنا المشهد، وأنتِ من تُخرجه.”
نظرت إليّ لحظة طويلة… ثم قالت، وكأنها تُلقي بجملة حوار مكتوبة جيدًا لكنها ملغومة:
“الفرق بيني وبينك، أنني لا أحتاج كاميرا لأرى ما خلف العيون ولا أقتطع اللحظة… بل أُجبرها على أن تبقى حتى تنهار.”
وكأنها تسحب الحبل الأخير قالت بنبرة أخف :
“إذًا… كيف تعرف أنك لم تُخرج حياتك، بدل أن تعيشها؟”
ابتسمتُ، هذه المرة من الأعماق.
“المشكلة ليست في الإخراج. المشكلة… أن لا أحد منا يملك نصًا مكتملًا.”
“وكيف تدير الممثلين؟”
قالتها بنبرة عابثة، لكن في عينيها فخّ نصبه خبثٌ ناعم.
“أعني… كيف تُقنعهم أن يقولوا ما لا يفكرون به، ويبكوا حين لا يشعرون، ويُحبّوا حين لا يريدون؟”
أجبتُ بعد رشفة متأخرة من القهوة التي بردت لكنها ما زالت مليئة بالمذاق:
“لا أقنعهم. أنا أخلق لهم واقعًا يكذبونه بإتقان.”
رمشتْ بعينها ببطء. كأنها تقيس مدى خبث هذا الجواب. ثم سألت:
“والجمهور؟ ما نصيبه من أكاذيبك المتقنة؟”
نظرتُ نحو سرب البط الذي بدأ يتفرق على سطح البحيرة، ثم عدت بعيني إليها.
“مهمتي كمخرج… أن تبدو الفراشة أمام الجمهور كأنها عصفور.”
ضحكت. ضحكة خافتة، لكنها خبيثة.
“تُقلل من سحر الفراشة؟ أم ترفع من شأن العصفور؟”
أجبت بهدوء:
“أخدع العين… لأفتح القلب.”
سكنتْ قليلاً، ثم اقتربتْ بنصف جسدها إلى الأمام، كما لو أنها تستعد لطرح سؤالها الأهم، ولكن بصوت منخفض، وكأنها لا تريد للعالم سماعه:
“قل لي… هل أُصلح برأيك للتمثيل؟”
رفعت ُ حاجبًا، نظرتُ إليها، ثم ابتسمتُ دون إجابة فورية.
كان المشهد كله يجيب.
ثم أضافت، قبل أن أنطق:
“… أم للإخراج؟”
كان ذلك السؤال، في حقيقته، عن التحكم، لا عن الفن. عن من يرى… ومن يُرى. عن من يختبئ خلف الكاميرا… ومن يختبئ خلف مشهد. نظرت إليها، ثم إلى الكوب أمامي، ثم عدتُ إليها بعينين هادئتين، لكن دون كلمة. ولأن بعض الإجابات… أجمل إن جاءت من الصمت.
وقبل أن ترحل، نهضت بخفة، كأنها لم تجلس أصلًا. لكنها توقفت، واستدارت نحوي. ثم سألت:
“لو أعدنا هذا اليوم غدًا، هل ستطرح الأسئلة ذاتها؟”
نظرت إليها، لحظة طويلة، ثم قلت:
“لا. لأنكِ ستجيبين بطريقة مختلفة.”
ابتسمت، تلك الابتسامة التي تسبق انسحابًا مدروسًا:
“لهذا أحب القهوة… نفس المكونات، وطعم مختلف كل مرة.”
ثم، وبدون أي استئذان، مدت يدها وأخذت كوب القهوة الذي كانت قد وضعته أمامي منذ البداية.
“هذا ليس مجانًا… هذا ثمن صراحتك.”
واختفت، كما دخلت… بخطى هادئة، لا تترك أثرًا، ولا تتكرر.
التوقيع :