3 يونيو، 2025
#الرجل الذي فقد ظله #فنجان قهوة

قهوة لاتشبه أحدا ً (2)

ثلاثة أشخاص في مصعد، رجل يحمل كوب قهوة ينظر للأسفل، وشاب وفتاة ينظران في اتجاهات مختلفة، تعكس حالة من التأمل والصمت الدرامي بالأبيض والأسود.

المصعد: مفارقة عمودية لحياة أفقية

بالأمس بعد منتصف الليل باغتني فراغ داخلي لا يملؤه النوم، ولا تُسكِته الكتب ولا تُجدي معه محاولات التهدئة اليومية التي أمارسها كطقس مكرر. شعرت برغبة صادقة في كوب قهوة. ليس لليقظة ولا للدفء، بل لشيء يشبه المصالحة. القهوة أحيانًا تشبه الاعتراف حتى لو لم يُنطق به.

توجهت إلى المطبخ، فتشت العلب وفتحت الخزائن، ووجدت أن كل شيء قد انتهى كأن بيتي تعب من طقوسي مثلي. لا قهوة ولا حتى بقاياها، ولم أجد سوى العتمة فخرجت.

مضيت في صمت نحو المحل الصغير في الشارع المقابل لمسكني. المدينة كانت نائمة، النوافذ مغلقة بإحكام والضوء الأصفر الخافت في الشارع يكتب مشهدًا بطيئًا كما لو أن الزمن نفسه يتثاءب.

المحل يفتح حتى الثانية بعد منتصف الليل. اقتربت من واجهته الزجاجية وكان البائع ينظف ماكينة الإسبريسو وكأنه يطهرها من خطايا من مرّوا قبلي. اشتريت قهوتي دون كلمات كثيرة وعدت. رائحة القهوة سبقتني إلى المصعد، وكأنني لا أحمل كوبًا، بل ذِكرى، أو هروبًا.

في طريقي إلى الطابق الثامن، دخلت المصعد، فصعدت معي فتاة وشاب بدا عليهما أثر التعب، كأنهما عائدان من محاولة بائسة لمصالحة هذا العالم. لم نتبادل كلمة، حتى التفت الشاب نحوي مبتسما ً وقال:
أنت في الطابق الثامن، صحيح؟
أومأتُ برأسي.
ثم سألته: وأنت؟
قال : السابع، والحمد لله سأغادر قبلكم، أما الفتاة، فهي في التاسع. فضحكنا، ضحكة خفيفة لا تحمل وزناً لكنها تعترف بشيء من الحياة. وعندما توقف المصعد، خرج الشاب وتبعته دون تفكير. ربما لأن عقلي تأخر عن جسدي، أو لأنني اعتدت أن أتبع الابتسامات عندما تضييق بي الأماكن.
قال لي، وهو يلتفت بنصف ضحكة:
“لا لا… هذا السابع. أنا أنزل هنا. نسيت؟”
قلت له، دون تردد:
يبدو أن عقلي لم يصعد معي أصلاً.

أغلق الباب، وبقيت أنا والفتاة.
نظرت إليّ، بابتسامة تسير على حدود السخرية واللطف، وسألتني:
“أين عقلك؟”
قلت:
“أظنه طارمنذ زمن ولم يعد.”
ضحكت ربما لا كدعابة، بل كإشارة نجاة لم أفهمها بعد.

ثم فُتح الباب وخرجت ، مشيت ببطء نحو باب مسكني، لم أفتحه فورًا، وقفت أمامه كأنني أزوره لأول مرة. أتساءل بصوت داخلي:
هل هذا فعلاً مكاني؟ أم أنني فقط اعتدت عليه لأنه صار مريحًا بما يكفي لئلا أرحل؟

كم مرة خُدعنا بباب يُفتح لنا؟
كم مرة ظننا أن هذا هو الطابق الصحيح لمجرد أننا تعبنا من الانتظار؟
كم مرة انخرطنا في حكاياتٍ لا تخصّنا، وتكلمنا بلغات ليست لنا، وحاولنا أن ننسجم مع تفاصيل لا تشبه أرواحنا؟
كم مرة كنا نحن الذين دخلنا “الطابق الخطأ” في العلاقة، في المهنة، في الصداقة، في الوعود… ولم يكن هناك من يقول لنا: “أخطأت. عُدْ.”؟

الحياة ليست مصعدًا دائمًا. لا يتوقف لينبهك. لا يعود بك. وإن أخطأت الطابق، قد لا تجد درجًا يعود بك، ولا أحدًا ينتظر ليذكّرك أين كنت تنوي الذهاب.
وقد تمضي سنوات، وأنت تنام في غرفة ليست لك، مع فكرة ليست فكرتك، تحت سقف لا يحميك، ومع شخص ظننته وطنًا، فإذا به لا يحمل حتى خارطة.

كم مرة نسينا فيها أنفسنا في ممرات الانتظار، وكم مرة صدقنا أن المواعيد لا تُخطئنا، مع أننا نحن من تأخرنا عن أنفسنا أولًا.

تأملت الليلة كم كانت الحكاية عابرة في شكلها، هادئة في وقائعها، لكنها كانت تُشير بصمت إلى شيء أكبر، شيء يشبه خارطة داخلية نتوه عنها كلما مشينا بسرعة.

أحيانًا، لا نحتاج لمن يفتح لنا الباب، بل لمن يهمس لنا برفق: هذا ليس مكانك.
وإن لم تتوقف لتُصغي، قد تقضي عمرك كله تزيّن الطابق الخطأ وتُطلق عليه اسمًا لا يستحقه: “حياتي”.

التوقيع

الرجل الذي فقد ظله

قهوة لاتشبه أحدا ً (2)

قهوة لا تشبه أحدًا

قهوة لاتشبه أحدا ً (2)

كانت مجرد جملة.. ثم اشتعل كل شيء

Leave a comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Subscription Form