3 يونيو، 2025
#الرجل الذي فقد ظله #فنجان قهوة

كانت مجرد جملة.. ثم اشتعل كل شيء

صورة درامية لرجل يكتب على آلة كاتبة قديمة في غرفة مظلمة، يسلط ضوء خافت من نافذة جانبية على ركام الأوراق وكوب القهوة، مع وجود بخار يتصاعد، مما يوحي بالتركيز والتأمل.

أحياناً، حين أفرغ من كتابة فصلٍ متخمٍ بالوجع، أقرأه بصوتٍ خافت كما لو كنت أُصلّي، لا لأحد، بل لصدى تلك النسخة المنسية منّي التي تاهت في دروب الطفولة والمساءات الباردة. الكتابة، يا صديقي، ليست موهبة، بل لعنة أنيقة، تجبرك أن ترى العالم عارياً من أقنعته، ثم تطالبك أن تبتسم. وكأنها تفرغ من صدري أرواحاً سكنتني دون إذن، أزعجت نومي بنقرها المستمر على جدران الذاكرة. وما أقساه من ابتسام مُتعب حين تعرف أن الحقيقة لا تُقال، بل تُنزف. لهذا أكتب… لا لأُخلَّد، بل لأتخفف من ثقل الأيام، لأمضي قليلاً نحو الضوء، ولو كعابر سبيلٍ لا يملك سوى الكلمات شاهدة ً على مروره.

وإذا دفعك الفضول أن تسألني عن الحب… فقد كان وهماً جميلاً مرّ بي كما تمرّ النسائم في آخر الخريف؛ يلامسني ولا يسكنني، يعدني ولا يفي، يهمس ثم يغيب. بحثتُ عنه في العيون، في الكتب، في الحكايات، فلم أجد منه سوى أطياف تتقن الخذلان. لم يحبني أحد كما كتبت عن الحب، ولم أُحبّ أحداً إلا كشخصية في قصة خيالية ٍ تمنّيتها. كان قلبي فردوساً صغيراً، نقيّاً، لا يعرف الخيانة ولا يشكّ في النوايا، لكنهم دخلوا إليه بأحذيتهم الثقيلة، واقتلعوا أشجاره، وتركوه أرضاً محروقة تئنّ تحت رماد الذكرى. ذلك الفردوس الذي ضيّعت مفاتيحه ذات مساء، حين اخترت الكتابة بدل أن أختار يداً تمسك بي. ومن وقتها وأنا أبحث عنه، لا في النساء، بل في السطور، في الأحلام التي تأتيني بلغةٍ لم أعد أتقنها، وفي الأغاني التي تشبه وجعاً أعرفه ولا أقدر على تسميته. الحب، يا صديقي، لم يكن غائباً عني، بل كنتُ أنا الغائب عنه، أركض خلف معانٍ عالية، ناسياً أن القلب لا يُشفى بالمعرفة، بل باللمسة.

ولكن من يلمس كاتباً يحترق؟ سؤال لا يُجاب عليه بالكلمات بل بالوجود ذاته. إن من يلمس كاتباً يحترق، لا يلامس اللّهب بل المعنى. فالاحتراق هنا ليس فناءً، بل تحوّلاً، كأن تلامس جمرة فتكتشف أنها ضوء، لا نار. فالكاتب، في جوهره كائن يسكن بين الفكرة وظلّها، بين ما يُقال وما يُخفى. وكل من يقترب منه لا يحترق، بل ينكشف، ويرى نفسه بعينٍ لم يعرف أنها تبصر، ويصغي إلى همسٍ كان في داخله منذ الأزل.

فالكتابة في جوهرها ليست جحيماً، بل طقس عبور؛ فمن يلمس كاتباً يحترق، لا يعود كما كان، لا لأنه تأذى، بل لأنه أدرك.

الوقت عند الكاتب لا يُقاس كما يقيسه الآخرون. لا تهمّه عقارب الساعات، ولا تواقيت المدن، بل يعيش في زمن داخلي هشّ، تشكّله الذكرى وتعيد تشكيله الخسارة. تمرّ عليه الأعوام كجملٍ غير مكتملة، تتعثر في فمه ولا تخرج. يكتب لا ليُسابق الزمن، بل ليُعيد تشكيله، ليمنحه معنى بعد أن خانه العالم الخارجي. ففي لحظة واحدة، بين سطرين، قد يحيا عمرًا كاملاً أو يموت دون أن يشعر به أحد.

وفي هذا الزمن الغريب، يولدُ الكاتب مرتين. مرّة حين يتنفس بين الناس، ومرّة حين يختلي بنفسه في حضرة الورق. له هويتان لا تلتقيان: واحدة تضحك وتصافح وتوقّع الفواتير، وأخرى تشبه ظلّه حين لا يراه أحد. تلك النسخة الثانية، هي الأصدق، هي التي تكتب، تنزف، تحترق… دون أن تنبس بكلمة في العالم الواقعي. هذا التمزق لا يعيبه، بل يمنحه القدرة على أن يرى من مكانٍ لا يراه أحد.

ولذلك، أنا لا أكتب لأبدع. لا أكتب لأُدهش أو أُصفّق. أكتب لأبقى، لأتوازن على خيطٍ رفيع بين الجنون والتلاشي. الكتابة، في حقيقتها، ليست موهبةً أتفاخر بها، بل سترة نجاة ألتحفها حين يغرق داخلي، وأحدٌ لا يراني. كل نصّ أكتبه ليس فعلًا جماليًا، بل رجاءً صغيرًا لأن أبقى حيًا بما يكفي لأُكمل الجملة القادمة…

وربما لهذا السبب تحديداً، أجدني أقاوم هذا السقوط الجماعي ببوحٍ وحيد، أكتب كلما شعرتُ أن العالم ينحدر. ففي هذا الزمن، لم يعد الكذب انحرافًا… بل صار مهارة. فالزيف تسلّل إلى كل شيء، حتى صار الصدق ضربًا من السذاجة. الوجوه لا تُشبه أصحابها، والحب يُقاس بعدد “الإعجابات”، والألم يُوثّق بالفيديو لا بالبكاء. الفروسية صارت مزحة، والنُبل تهمة، والأنوثة سلعة تتقن فن العرض أكثر مما تتقن فن العطاء. النساء تاهت بين تصنّع القوة وتشوّه الرقة، والرجال بين غريزة مشتهاة وهوية ضائعة.

الكاتب هنا، لا يصرخ، بل يفضح بالصمت، كأنه يضع مرآة صغيرة أمام وجوههم ليروا القبح الذي أنكروا وجوده فيهم.

لذا، أجدني أكتب لا عن نفسي فقط، بل نيابةً عن أولئك الذين لم تُمنح لهم فُرصة أن يُقالوا. أُصغي إلى الأرواح الخافتة التي تئنّ خلف ضجيج العالم، وأمنحها حنجرتي. أكتب عن الطفل الذي أُغلق الباب في وجهه، عن المرأة التي ابتلعت خيبتها كي لا تبكي أمام المرآة، وعن العجوز الذي مات وفي قلبه جملة لم تُكتَب. هذه الأقلام لا تبوح، بل تنزف من خنادق القلب، حيث الصمت أصدق من أي خطاب، فكل حرف أكتبه هو فعلُ إنصاف، وعدالةٌ صغيرة في كونٍ كبير لا يُنصف أحدًا.

لكنني في النهاية، لا أبحث إلا عن الأصل الأول. وهو أن أكتب كي أسترجع تلك اللحظة النقيّة التي وُلد فيها الإنسان قبل أن يُسمّموه بالغرائز والتصنيفات. أبحث عن الكلمة كما كانت قبل أن تُدنَّس بالشعارات، وعن الحب كما همَسَ به البدائيّ الأول في ظلمة كهفه، لا كما يُبَثُّ الآن في الإعلانات الملوّنة. كل كتابة صادقة هي محاولة جنونية للعودة إلى النبع، إلى اللهب الأول، إلى الطفولة قبل أن تلوّثها الوقائع. ولذلك… أكتب كمن يحفر بأظافره في صخر الزمن، لا ليكتشف الجديد، بل ليستعيد ما تمّ دفنه عمداً في ضجيج هذا العالم.

ومن يلمس كاتبًا يحترق، لا يدخل عالمه، بل يتعثر في شظاياه، كمن يفتح كتابًا فيجد نفسه بين الصفحات دون أن يعلم متى كُتب.

ومن يلمس كاتبًا يحترق، لا ينجو من جُمله ِ، لأنه سيفهم متأخرًا أنه كان مجرد جملة منها… ثم اشتعل فيه كل شيء.

ومن يلمس كاتبًا يحترق، لن يندهش من النار، بل من كمّ الرماد الذي كان يحمله دون أن يدري.

التوقيع :

الرجل الذي فقد ظله

كانت مجرد جملة.. ثم اشتعل كل شيء

قهوة لاتشبه أحدا ً (2)

كانت مجرد جملة.. ثم اشتعل كل شيء

في حضرة الذين يشبهون نهايتنا

Leave a comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Subscription Form