3 يونيو، 2025
#الرجل الذي فقد ظله #فنجان قهوة

في حضرة الذين يشبهون نهايتنا

غرفة قديمة مظلمة، مقعد خشبي فارغ، ونافذة تطل على الخارج. إضاءة خافتة تخلق جوًا من التأمل والعزلة والانتظار.

لا أعرف اسمه، ولا أظنني سألته يومًا. يكفيني أنه يجاورني في الحي. رجل مسنّ، ملامحه متقشفة كأيام الشتاء، يمشي ببطءٍ كأنه لا يثق بالعالم من تحته، وكأن كل خطوة تستدعي تأملًا صغيرًا. لا يختلط بالناس، ولا يبدو أنه ينتظر أحدًا. كنت أراه أحيانًا من بعيد، يحمل كيسًا صغيرًا، أو يجلس على حافة الرصيف، وعيناه موجهتان إلى نقطةٍ لا أراها. ثمة شيء غريب في حضوره… كأن حياته تسرّبت منه بهدوء، وبقي هو ينتظر أن يعود لها أحد.

ربما لهذا السبب لا نقترب من أمثاله… لأنهم يشبهون نهايتنا. وربما لأن وجودهم وحده يوقظ فينا أسئلة مؤجلة، وكأنهم تعلموا أن الحياة لا تمنح الإجابات لمن يلحّ في الأسئلة. لذلك نرانا حين نمرّ بجانبهم نتفاداهم، نخفض رؤوسنا كأن فيهم مرآة لا نجرؤ على النظر فيها. ليس لأنهم مخيفون، بل لأن حضورهم يعرّي زيف اندفاعنا، ويكشف هشاشتنا المعلّقة بخيوط الوهم. هم، الذين خفّ عنهم ثقل الانتظار، صاروا الأقدر على تذكيرنا بكل ما نخشى أن نفقده… أو أن نصبحه، وأن الطمأنينة أحيانًا لا تأتي من الامتلاء بل من التجرّد.

هم لا يخسرون شيئًا، ولهذا يذكّروننا بخساراتنا المؤجَّلة. يضعوننا أمام حقيقتنا بلا مقدمات، أمام العمر الذي نكدّسه ونخاف أن نراه يذهب سُدى. نحن الذين نركض خلف التفاصيل، نرتب حياتنا كأنها لن تنتهي، نرتعب حين نقابل من صار حياته مجرد انتظارٍ دون أمل… نخاف الفراغ، ربما لأننا نعرف أن له شكلًا يشبهنا.

ولأني كنت أشعر في داخلي أن بيني وبينه صمتًا يشبه الجسر، قررت أن أعبره. لا أعرف إن كان الفضول هو ما دفعني، أم رغبة خفية في ملامسة ما يشبه النهاية دون أن أصلها. طرقت بابه يومًا دون سابق تبرير، كمن يطرق على شيء داخله لا على الخشب. فتح ببطء، كأنه يفتح باب زمن آخر، وأشار لي بالدخول دون كلام.

دخلتُ، وأنا أفتش بعينيّ عن ملامح حياةٍ لم تُروَ. كانت الغرفة ضيقة، وهادئة حدّ الصدى، لكن ما لفتني لم يكن الأثاث، ولا الصمت، بل معطف أسود معلق بعناية على الجدار، كما لو أنه نصب تذكاري لشيء لم يحدث بعد، فأنا لم أره يوما ً مرتديه رغم تعاقب الشهور والفصول.

في زيارتي له، لم أشعر أنني ضيف… شعرت أنني اقتحمت زمنًا آخر. الغرفة ضيّقة، لكنها مرتبة بعناية توحي أن صاحبها لا يعيش الفوضى إلا داخله. جلس على كرسيه المعدني، نفس الكرسي الذي قال لي لاحقًا إنه صنعه بنفسه، أيام كان الحدّاد لا يصنع فقط الحديد بل يصنع حياته بيديه. أخبرني ذلك دون فخر، بل بنبرة رجل يتحدث عن شيء رحل دون أن يودّعه.

قلت له، محاولًا كسر الصمت:

ـ ما بتشتاق للشغل؟

ابتسم، ثم نظر إلى يديه وقال:

ـ هالإيدين شبعت نار ودق… بس العمر ما بينكسر بالحديد، متل ما بيكسره الفراغ.

لم أجد ما أجيبه. اكتفيت بتأمل جدران المكان، فكل زاوية فيه كانت تحمل أثره: أدوات قديمة، ساعة حائط لا تعمل، صورة باهتة لرجل يبدو أصغر بعشرين عامًا. ثم عادت عيني إلى المعطف… وداخلي يمتلئ بأسئلة لم أعد قادرًا على تجاهلها.

معطف معلّق على الجدار كأيقونة. أسود، طويل، خيوطه مشدودة كما لو أنه لا يريد أن يسترخي.

سألته، كمن يسأل عن أثرٍ مقدّس:
ــ لماذا تُبقي هذا المعطف معلّقًا كل هذا الوقت؟ لماذا لا ترتديه؟ ألا يذكّرك بشيء مؤلم؟

 قال:
ــ بل يذكّرني بقيمة لا تُقاس، وما لا يُقاس لا يُترك في مهب اللحظة العابرة.

اعترضت بدهشة:
ــ لكن الحياة تمضي… ما الفائدة من التمسك بشيء لا يُستخدم؟

أجاب وهو يُمرر أصابعه على طرف الكرسي :
ــ هذه نظرتكم أنتم… أن تُقاس القيمة بالاستخدام، والزمن بالسرعة. نحن يا بني، تعلّمنا أن بعض الأشياء يُحتفظ بها لا لأنها تُستعمل، بل لأنها تقول شيئًا حين يصمت كل شيء آخر.

سألته مرتبكا ً بين حيرة وانبهار:
ــ وماذا يقول لك هذا المعطف؟

نظر إليّ نظرة طويلة، كأنّه يبحث عن لغة تناسب عمري ثم قال:
ــ يقول لي: “لا تنسَ من كنت.”
ــ يقول لي: “الشتاء لا يأتي من الخارج فقط.”
ــ يقول لي: “احذر أن ترتدي الدفء المصنوع من الذكريات، إن لم تكن قادرًا على تحمل ثقلها.”

شعرت كأنني أصغر مما ظننت، كأنني دخلت كتابًا لم أقرأه من قبل.

ثم همس لي وكأنه يختم درسًا:
ــ أنتم يا صديقي تركضون نحو الحياة كما لو أنها تفلت منكم، ونحن نمشي فيها كما لو كنا نكفّنها. أنتم تصنعون الذكرى كي تنشروها، ونحن نصنعها كي نحتمي بها.

في طريق عودتي، لم يكن رأسي خفيفًا كما دخلت، بل مثقلًا بشيء يشبه الحقيقة. لم أفهم كل ما قاله، لكنه أزعج شيئًا ساكنًا في داخلي. ربما لأنني أدركت أنني لم أكن أنظر إلى المعطف، بل إلى ما أخشاه أن يكون معطفي.

ذلك الشيء الذي نعلّقه دون أن نلبسه، نخشى أن ننساه، ونخاف أكثر إن تذكّرناه. كم من الأشياء نتركها ظاهريًا خلفنا لكنها لا تتركنا؟ كم من معطف نعتقد أنه مجرد قماش، بينما هو في الحقيقة امتداد لذاكرة، أو خيط أخير يربطنا بما كنّا قبل أن نتحول إلى ما أصبحنا؟

في تلك اللحظة، تذكرت جملة قالها بصوته المتعب:
“لا أحد يرتدي كل ما يملك، ولا أحد يخلع كل ما يشعر.”
وفهمت.

المعطف الذي لا يُلبس، ليس نقيض الدفء… بل دليله. هو الشيء الوحيد الذي يبقى حين ينتهي كل شيء آخر، كأثر، كصدى، كمتحف صغير لحياةٍ كاملة.

منذ تلك الزيارة، لم أعد أراه كثيرًا. وربما لم أعد أراه بنفس الطريقة. كلما مررت قرب منزله، نظرت إلى الشرفة، كأنني أبحث عن ظلّ لا يلوّح، عن معطف ما زال هناك… معلّقًا، ساكنًا، يراقب الحياة من وراء البلور.

لم أعد بحاجة لأن أسأله شيئًا. فقد فهمت أن بعض الحكايات لا تُروى بالكلمات، بل بما يُترك بلا شرح، بلا نهاية.

ولأننا نخاف ما يشبه هشاشتنا، نتجنب المعاطف المعلّقة التي لا يمدّ أحد يده نحوها، ونتهرّب من الأرائك التي يعلوها الغبار، ومن الذكريات التي تخنق نفسها في عتمة العزلة. نخاف أن نكون أولئك الذين أصبحوا خارج الأسئلة، خارج الحكايات، خارج الحاجة.

المعطف ما زال معلقًا، لا ينتظر أحدًا…
وأنا؟
ما زلت أمرّ بجانبه كل صباح، أفتعل التجاهل، كأنّني لا أفهم الرسالة.
لكنني أفهم…وأقنع نفسي أن المسافة بيني وبينه ما زالت كافية.
وأخشى يوما ً أن يمرّ بي أحدهم كما مررتُ أنا بذلك المعطف… أن يراني ولا يراني، ويترك خلفه شيئًا مني لم أعد أملكه.

التوقيع

الرجل الذي فقد ظله

في حضرة الذين يشبهون نهايتنا

كانت مجرد جملة.. ثم اشتعل كل شيء

في حضرة الذين يشبهون نهايتنا

الشرير الذي لم يجد مخرجاً !

Leave a comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Subscription Form